حكايات صاحبة الجلالة

عندما عثر “أمير الصحافة” على كنز ثمين “لكنه توقف عن النشر”

إعداد: فريق دار الإعلام العربية

الحصول على السبق من جُلِّ ما يسعى إليه الصحافيون، لا سيما السبق المرتبط بالكشف عن معلومات مؤثرة ومصيرية. ويستخدم الصحافيون من أجل ذلك أساليب مختلفة، استغلالاً لشبكات علاقاتهم مع المصادر المختلفة. فيما عادة ما تثار التساؤلات حول حدود “الحيل” التي يُمكن للصحافي أن يلجأ إليها للحصول على السبق، وهل يحق له الحصول بطريقة أو بأخرى على مستندات شديدة الأهمية (دون علم صاحبها)؟ وما هي حدود وشروط ذلك؟

مؤسس مجلة “آخر ساعة” الكاتب الصحافي محمد التابعي (1896-1976) أو أمير الصحافة كما كان يطلق عليه، صاحب واقعتين ربما تساعدان في توضيح الصورة. في الواقعة الأولى توقف عن استكمال نشر معلومات تحصّل عليها وكانت حلماً حينها لكل صحافي. بينما أصر في الواقعة الثانية بعدما حصل على معلومات شديدة الأهمية مرتبطة بالمصلحة العامة، على أن ينشر.. فما الفارق بين الواقعتين؟ إليكم التفاصيل:

القصة نقلتها قرينة التابعي كمقدمة لكتاب بعنوان (محمد التابعي.. رائد الصحافة العربية الحديثة) لمؤلفه صبري أبو المجد. وقد نشرت المقدمة في عدد 12 يناير 1986 من صحيفة السياسي في صفحتها التاسعة. ونقلت المقدمة المذكورة شهادات للكاتب حازم فود عن “التابعي” ومدرسته الصحافية، كان قد أوردها في دراسة تحليلية له عن التابعي وشخصيته في العدد الأول بعد الألفين لمجلة “آخر ساعة” في 28 فبراير 1973. وجاء في المقدمة المذكورة:

بعد وفاة سعد زغلول في العام 1927 كان الحصول على مذكرات زعيم الأمة أمنية كل صحافي آنذاك، وكان نشرها يعني ارتفاعاً كبيراً في توزيع المجلة أو الصحيفة التي تستطيع الحصول عليها.

وفي الواقع ظلت تلك المذكرات لا يعرف مكانها أحد، ولا حتى السيدة صفية زغلول، والتي طلبت من أحد أقربائها، وهو فواد کمال سکرتیر عام مجلس النواب حينها،  أن يختار من بين موظفي المجلس من يتولى تنظيم مكتبة سعد.. وانتدب فواد کمال لهذا العمل اثنين من موظفي المجلس، وكانت تربطهما صداقة وثيقة بزميلهما محمد التابعي.

وأثناء تنظيم المكتبة وجد المؤلفان أجزاء من مذكرات سعد زغلول، وهي مكتوبة في كراسات متناثرة، وعكفا على قراءتها بدقة، ثم وضعاها في أحد الأدراج دون أن ينتبه أحد إليها.

سبق صحافي

ولقد نقلا إلى محمد التابعي أنهما وجدا في مکتب سعد عدداً من الكراسات المعروفة في الوسط المدرسي باسم الكشكول، وأنهما قلبا الصفحات الأولى من هذه الكراسات فوجداها بيضاء خالية من أية کتابة، ولكن بعد 100 صفحة تقريباً  وجدا أن سعداً بدأ كتابة مذكراته من العام 1916.

وفي كراسة أخرى وجدا أن سعداً بدأ الكتابة بعد 50 صفحة، وأن ما كتبه كان من سنوات 1909 و 1907 و 1908.. وأنهما فتحا الكراسة الثالثة فوجدا بعد 40 صفحة من مذكرات سعد زغلول عن الجمعية التشريعية والجلسات الليلية التي كانت تعقد في بيت سعد قبل كل اجتماع، ثم بعض حوادث سنة 1914 ابتداءً من

عزل الخديوى السابق وتولي السلطان حسین عرش مصر وموقف سعد من محاولة إقناع الأمير كمال حسين قبول عرش مصر، والظروف التي عرض فيها العرض على الأمير أحمد فؤاد، وموقف حسين رشدي باشا من كل هذه المسائل بتفصيل دقيق.

كما عثرا على مظروف كبير فيه البرقيات التي تلقاها سعد في سيشل ومالطة وجبل طارق وعدن. وفي كراسة رابعة وجدا سعداً يسجل رأيه في كل الزعماء المصريين.

ومن كل هذه التفاصيل التي عرفها محمد التابعي من زميليه استطاع أن يبدأ كتابة مذكرات سعد وبأسلوب سعد دون أن يخرج عن كل الحقائق التي سمعها.

وحدث بعد النشر مباشرة أن ثارت صفية زغلول، وأصيبت بانهيار عصبي؛  ذلك لأنها كانت ترى أن هذه المذكرات ملك للشعب وليست ملكاً لها أو لأي أحد ينشرها وقتما يشاء. وقد استجاب التابعي لارادة أم المصريين بعد اقتناعه برأيها.

بعدها قررت أم المصريين أن تسلم هذه المذكرات أمانة لمصطفى النحاس، باعتباره خليفة لسعد ورئيسا للوفد بعد سعد. وقد أودعها النحاس في أحد خزائن بنك مصر. وتلك هي المذكرات التي نشرت بعض أجزائها في أوائل الستينيات في جريدة الأخبار . طبقاً لما ورد في مقدمة الكتاب.

واقعة أخرى

وفيما رفض التابعي مواصلة النشر -بعد أن حصل على تلك المذكرات دون موافقة من ورثة سعد، مستغلاً علاقته بالموظفين اللذين أوكلت لهما مسؤولية ترتيب مكتبة زعيم الأمة- إلا أنه في واقعة أخرى حصل فيها على مستند شديد الأهمية بطريقة مشابهة نسبياً، أصرّ على النشر ولم يتراجع، كان ذلك في العام 1930، وهو ما تكشفه مقدمة كتاب (محمد التابعي.. رائد الصحافة العربية الحديثة)، والتي جاء فيها أيضاً:

في 1930 عقدت حكومة صدقي باشا اتفاقاً سرياً مع شركة قناة السويس ينص على مد امتیازها لمدة 60 سنة أخرى ، وكان التابعي قد حصل على نص هذا الاتفاق السري عن طريق أحد أصدقائه، وكان خطيباً لابنة أحد وزراء حكومة صدقي باشا. وقد وافق خطيب ابنة الوزير على طلب التابعي بأن يسحب نص المشروع من حقيبة الوزير دون أن يشعر لمدة عشر دقائق يكون خلالها قد صوَّرَ النص.

ونشر التابعي خبر هذا الاتفاق السري. وقامت الوزارة وقررت نشر بيان رسمي تكذب فيه كل ما نشره التابعي بعد أن تأكدت أن نص الاتفاق موجود في مكتب الوزير وأنه لم تصل إليه يد. ولكن التابعي هدد بنشر صورة زنكوغرافية للاتفاق . واضطرت الحكومة إلى العدول عن نشر بیان التكذيب وأن تطوي مشروعها. وهكذا استطاع التابعي بأمانته الصحافية أن يجنب مصر مد امتیاز استغلال قناة السويس لمدة 60 عاماً أخرى.

وبحسب الشهادة التي نقلتها زوجة التابعي في المقدمة المذكورة، فإن من مبادئ التابعي الصحافية أن “من واجب الصحافي أن يضحي بكل شيء إذا كان في ذلك دفع الخطر أو الضرر عن الوطن.. وبهذه المبادىء حقق التابعي كثيراً من الانتصارات الصحافية (..) التابعي ظل صادقاً مع نفسه ومع مهنته ومع وطنه أميناً على سمعته الصحافية التي يرى أنها المفتاح الذي يمكن للصحافي أن يفتح بها الأبواب المغلقة حتى يصل إلى مصادر أخباره، وأن الخبر الصحافي يجب أن يأتي عن طريق مشروع وأن لا يؤخذ عنوة من مصدره، ومهمة الصحافي الناجح أن يقنع مصدره بالمنطق والحجة والمصلحة.. ولكنه مع كل هذا فإن التابعي كان يضع المصلحة العليا فوق كل اعتبار”.

إضاءة:

محمد التابعي محمد وهبة

 

من مواليد 18 مايو 1896 في محافظة بورسعيد (شرق مصر). لُقب بـ “أمير الصحافة”، لمعت نجوميته في وروز اليوسف، وهو مؤسس مجلة آخر ساعة. وقد توفي  في 24 ديسمبر 1976 في الدقهلية. من بين أقواله المأثورة قوله: “أن يفوتك 100 سبق صحافي أفضل من أن تنشر خبراً كاذباً”.

ومن أقواله المأثورة أيضاً: “أنا لا أسكت على الحال المايل، رأيي أن الصحافة تستطيع أن توجه الرأي العام، وليست أن تتملقه أو تكتب ما يسره أو يرضيه”.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى